وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، اليوم الإثنين، خطابا ساميا إلى الأمة بمناسبة الذكرى الثامنة لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين.
وفي ما يلي النص الكامل لخطاب جلالة الملك: "الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه شعبي العزيز، نخلد اليوم، الذكرى الثامنة لاعتلائنا العرش، في مرحلة تاريخية، حافلة بإصلاحات عميقة، وقضايا مصيرية. وفي سياق تحولات متسارعة، وتحديات، لا سبيل لرفعها إلا برؤية شمولية واضحة، وبالتخطيط المحكم للأسبقيات الملحة. والاستمرارية في تعزيز ما تحقق من منجزات. والنهوض بالإصلاحات، التي لا مناص منها، لبناء مغرب المستقبل. مغرب المبادرات والإنجازات، والأوراش وكسب الرهانات، مهما كان حجم التحديات. سبيلنا انتهاج المقاربة الديمقراطية، التشاركية، في اعتماد على الذات وعلى مواردنا البشرية، التي هي أفضل نعمة يمكن أن يطلبها الإنسان من خالقه.
وإني أخاطبك، بصفتي أميرا للمؤمنين، مؤتمنا على قيادتك، بالبيعة والدستور. كما أتوجه إليك، باعتباري ملكا - مواطنا أستشعر الانشغالات الحقيقية لكل مغربي ومغربية، من خلال تفقدي الميداني لأحوالهم. وهو ما يجعلني حريصا، في نفس الوقت، على التوجهات الكبرى، والانشغالات اليومية للمغاربة قاطبة. ضمن نسق متكامل من الأسبقيات، لتعزيز الإصلاحات البنيوية المنجزة، وتسريع التفعيل الأمثل لتلك التي هي في طريق الإنجاز، والنهوض بأخرى جديدة.
شعبي العزيز، تعرف قضية وحدتنا الترابية منعطفا حاسما، أفرزتـه المبادرة المغربية للتفاوض، بشأن تخويل أقاليمنا الجنوبية حكما ذاتيا، في إطار سيادة المملكة، ووحدتها الوطنية والترابية.
وإننا لمرتاحون لموقف مجلس الأمن، والأمم المتحدة، في دعمها لمبادرتنا، ووصفها بالجدية والمصداقية، ولكل رعاية أممية مسؤولة وبناءة، للتفاوض الجاد والصادق بشأنها. كما نشيد بالقوى الفاعلة في المنتظم الدولي، والبلدان الشقيقة والصديقة، التي ساندتها. وهو ما جعلها تفرض نفسها على الأجندة الدولية. باعتبارها، شكلا ومضمونا، نمطا حديثا لتقرير المصير، مطابقا للشرعية الدولية غير المغلوطة.
ونود التأكيد، باسمك شعبي العزيز، على عزم المغرب الصادق على التفاوض الجاد، على أساس أمرين: أولهما أن بلادنا قد شاركت بحسن نية، في الجولة الأولى من المفاوضات. والمغرب على استعداد دائم للتفاوض على الحكم الذاتي فقط، كل الحكم الذاتي، ولاشيء غير الحكم الذاتي. وثانيهما، أن الحكم الذاتي المتوافق حوله، لن يكون إلا في إطار سيادة المملكة المغربية الكاملة والدائمة، غير القابلة للتصرف، والتي لا مساومة فيها. ووحدتها الوطنية المتلاحمة، التي لا تفريـط فيها. وحوزتهـا الترابية غير القابلة للتجزئة. ومهما يكن مسار المفاوضات شاقا وطويلا، فإن يدنا ستبقى ممدودة إلى كل الأطراف الحقيقية، المعنية بالتسوية السياسية لهذا النزاع المفتعل، لإقناعها بالفرصة التاريخية، التي تتيحها. غايتنا جعلها انتصارا لجميع الأطراف، وللحق والمشروعية، وفرصة لتغليب روح الأخوة وحسن الجوار، والوحدة المغاربية.
وإننا لواثقون من كسب مسار تقرير المصير التوافقي، بعون الله، وبفضل الإجماع الوطني، بمشاركة جميع الصحراويين، دونما إقصاء أو تمييز. داعين كافة رعايانا الأوفياء، أبناء الصحراء المغربية، المغتربين عن الوطن، أينما كانوا. ولا سيما المحاصرين بتندوف، للعمل على توسيع انخراط كل إخوانهم، في هذه المبادرة المحققة لمصالحتهم ولمِّ شملهم، وصون كرامتهم.
وفي هذا السياق، نتوجه بعبارات الإشادة والتقدير، لقواتنا المسلحة الملكية.
ولاسيما تلك المرابطة بأقاليمنا الجنوبية. مؤكدين لهـا سـابغ رضانا. واعتزاز الشعب المغربي بصمودها، وبتضحياتها، في سبيل صيانة وحدة الوطن. وسنظل حريصين على النهوض بالأوضاع الاجتماعية، لكل فئاتها، بما فيها المتقاعدون.
ولتعزيز التحول الإيجابي، الذي أفرزته هذه المبادرة الواعدة، فإننا مطالبون بدعمها بمبادرات ديمقراطية وتنموية، في إطار استراتيجية شمولية. علاوة على التعبئة الجماعية، وتمتين الجبهة الداخلية. فالمبادرة غرس طيب، علينا أن نتعهده بالرعاية المستمرة. وسيلتزم المغرب بكل اتفاق سياسي على أساسها، مع جميـع الأطراف الفعلية.
وكيفما كان الحال، فلن يكون المغرب رهينة لحسابات الغير. بل سيمضي قدماً في تطوره السياسي. سلاحنا الذي لا تحده قوة، هو رصيدنا الديمقراطي الثمين، والذي يحق لنا الاعتزاز بـه كنموذج متقدم في منطقتنا.
وفي هذا السياق، فإن على الجميع أن يجعل من انتخاب مجلـس النواب المقبل، موعدا جديدا لترسيخ الممارسة الديمقراطية المألوفة. وتجسيد إرادتك الحقيقية، وإفراز أغلبية حكومية ذات مصداقية ومعارضة فاعلة وبناءة، على أساس برامج ملموسة وهادفة، وليس شعارات فارغة مبتذلة للإصلاح والتغيير. فمن شأن ذلك أن يفضي إلى مزايدات عبثية، شعارها: "إصلاح الاصلاح وتغيير التغيير".
وستجدني، شعبي الوفي، دوما في مقدمة المتصدين لكل خطاب مشكك في جدوى الانتخابات والأحزاب الوطنية. وكذا لكل الممارسات المغرضة، التي تستهدف مصداقيتها. فما بلغناه من نضج سياسي، يقتضي نبذ المفاهيم الخاطئة العدمية والتضليلية لحرمة الاقتراع.
فالانتخابات ليست صراعاً حول هوية الدولة أو مقومات نظامها. من إسلام وسطي منفتح، وملكية دستورية، ووحدة وطنية وترابية، وديمقراطية اجتماعية. فتلكم ثوابت تعد محط إجماع وطني راسخ. ولا وجود لدولـة بدون ثوابت ومقدسات. كما أن جوهر الاقتراع، لا يكمن في التنافس حول الاختيارات الكبرى للأمة، التي هي موضع توافق وطني، وعماد التطـور العصري. كدولة القانون والمؤسسات، والمواطنة القائمة على الالتزام بحقوق وواجبات الإنسان، والليبرالية الاقتصادية، والمبادرة الحرة، والتضامن والعدالة الاجتماعية، والانفتاح على العالم. وهو ما نحن مؤتمنون على استمراره مهما تغيرت الظرفيات. وذلك في نطاق منظورنا للملكية المواطنة.
وحتى لا تتحول ثوابت الأمة وخياراتها إلى مجرد شعارات؛ فإننا نسجل بارتياح التوجه الجديد للأحزاب الجادة. وهذا هو الأهم، لطرح برامج انتخابية محددة وواضحة.
وذلكم هو المجال الفسيح لجدوى الانتخابات، المفتوحة أمام تنافس الهيئات الحزبية، وتحديد أسبقيات الولاية التشريعية القادمة لحسن تدبير الشأن العام ، وفق الاختيار الشعبي الحر. وهنا أريد التأكيد أن النظام الذي ارتضيناه، هو الملكية الفاعلة، التي لا تختزل في مفهوم أو سلط منفصلة تنفيذية، أو تشريعية أو قضائية. إنها الملكية المغربية الأصيلة التي عززناها بالمواطنة التنموية، في التزام بمشروعيتها، الدينية والتاريخية والدستورية والديمقراطية، ووفاء لكفاحها الوطني، وتضحياتها من أجل سيادة الوطن ووحدته وتقدمه، وما يميز شعبها وعرشها من تجاوب عميق.
ومهما كانت مشروعية الديمقراطية النيابية التقليدية، فإننا نرى من الضروري استكمالها بالديمقراطية التشاركية العصرية. الأمر الذي يمكننا من الإفادة من كل الخبرات، الوطنية والجهوية، والمجتمع المدني الفاعل، وكافة القوى الحية للأمة، ومشاربها وتياراتها، أيا كان موقعها، والتي لها مكانتها لدى جلالتنا، ورأيها المحترم في الشأن العام، في نطاق سيادة القانون ودولة المؤسسات. وهذا ما يشمل القضايا المصيرية للأمة. وفي جميع الأحوال، فإننا ملتزمون بعرض مقترحاتها على المؤسسات الدستورية، والهيئات المختصة، للبت فيهـا.
كما ننتظر من أحزابنا الوطنية، إبراز نخب مؤهلة لحسن تدبير الشأن العام، والمساءلة والمحاسبة على حصيلة أعمالها.
ومن هنا أعول عليك شعبي الوفي، في استشعار جسامة المسؤولية الملقاة عليك، في حسن اختيارك لممثليك، من خلال انتخابات نزيهة، سيكون لنا موعد قريب للوقوف معك، على ما يلزم لجعلهـا محطة هامة، للمضي قدما من أجل تتويج الإصلاح المؤسسي التدريجي بتغيير شامل وأسمى.
بيد أن هذا لا ينبغي أن يحجب عنا وجوب إعطاء الأسبقية، في المرحلة الراهنة، لمسألتين ملحتين: أولاهما، دعم ومواكبة الدينامية الإيجابية، التي خلقتها مبادرة الحكم الذاتي، في تعبئة شاملة لخوض المراحل المقبلة. والثانية: كسب رهان الاستحقاقات الانتخابية القريبة، لإفراز مشهد سياسي معقلن وسليم. عماده أغلبية منسجمة، تنبثق عنها حكومة متراصة. حكومة فعالة، قائمة على أقطاب محددة، متكاملة وناجعة، وفق أولويات السياسة العامة للبلاد. وليس مجرد اعتبارات سياسوية ضيقة، أو حسابات عددية. فمجالات العمل السياسي النبيل واسعة. ولا تنحصر فقط في الفوز بمقعد برلماني، أو منصب حكومي، بل تشمل المجال الفسيح والأقرب للمواطن، من خلال الصلاحيات الواسعة المخولة للجماعات المحلية. سواء كانت من الأغلبية أو من المعارضة، بفعل الانتخابات التي تمكنها من سلطة فعلية في تدبير شؤونك اليومية.
شعبي العزيز، إن تحصين مكاسبنا الديمقراطية، رهين بمواصلة مسارنا التنموي، وتوطيد الأمن والاستقرار وإدارة القرب. وفي هذا الصدد، فإننا حريصون على إعطاء دفعة قوية للمشاريع الواعدة، للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، باعتبارها ورش عهد مفتوح باستمرار. وسنظل ساهرين، ميدانيا، على المتابعة والتقويم المستمر، لحسن إنجاز مشاريعها. ولن نسمح بأي توظيف مغرض أو مصلحي، يحولها لمجرد شعار أجوف. فهدفنا الأسمى ينبغي أن يظل النهوض بأوضاع الفئات، التي تعاني آفات الفقر والأمية، والتهميش والإقصاء، بما يكفل تحصينها من نزوعات التطرف والانغلاق والإرهاب. وفي هذا الصدد، نجدد التأكيد أن الجميع مسؤول عن تحرير الطاقات الخلاقة والمتنورة للشباب، واستثمارها في الأعمال الخيرة. بدل تركها لقمة سائغة للظلاميين، الذين يشحنون ضعاف النفوس والعقول، بحملها على الأفعال الانتحارية، المحرمة شرعا وقانونا.
وفي هذا السياق، نجـدد تنويهنا بالإدارة الترابية، وبأسرة الأمن الوطني، والدرك الملكي، والقوات المساعدة، والوقاية المدنية، مؤكدين موصول عنايتنا بكافة الساهرين على شؤون الدفاع والأمن. رعاية منا لأوضاعهم الاجتماعية، وتكفلا بأسرهم، بما هو جدير بتضحياتهم، في سبيل أمن المواطنين وحوزة الوطن. كما نعتز بما أبانوا عنه من يقظة وتعبئة وتفان، في التصدي للأفعال الإجرامية، من عدوان وإرهاب وترهيب.
ونود الإشادة بروح المواطنـة المسؤولة، التي أبداها المواطنون والمواطنات.
إيماناً منهم بأن الأمن شأن المجتمع بأكمله. واثقين أن الإرهاب المقيت، لن ينال من توجهنا ، الذي لارجعة فيه. حريصين عـلى تجفيف منابعه، باعتماد مقاربة شمولية، متعددة الأبعاد، تقوم على تعزيز الأمن الوطني، الذي أمرنا بمده بالوسائل المادية والبشرية اللازمة، في تكامل للعمل التنموي، مع الإبداع الثقافي والفكري، كفاعل قوي، في محاربة التطرف والظلاميين. مؤكدين ضرورة نهوض العلماء، والمثقفين وهيآتهم، بمسؤولياتهم في التوجيه والتنوير. وإذا كان من طبيعة الفكر أن يمر بفترات مد وجزر، فإنه من غير المقبول جعل أزمة الفكر تترك المجال فارغا للترويج لفكر الأزمة. فبلادنا في أمس الحاجة، لبعث صحوة دينية متنورة، ونهضة فكرية عصرية.
شعبي العزيز، لقد حققنا العديد من المكاسب، فـي إنجاز المشاريع المبرمجة، في القطاعات التي توافرت للحكومة فيها رؤية واضحة. مما جعل المغرب يصبح، ولله الحمد، ورشا كبيرا، تنتشر في ربوعه المشاريع الهيكلية، الوطنية منها والجهوية والمحلية. وما كان لنا لنحقق ذلك، لولا ثقة المواطنين والمستثمرين، والمصداقية التي يحظى بها المغرب لدى شركائه الأجانب، بفضل التزامه بالحكامة الجيدة.
ولدعم هذه المكاسب، على الجميع أن يشمر على ساعد الجد وقوة الإرادة، لاستكمال الإصلاحات المنجزة والجارية، بإطلاق أوراش حيوية أخرى. ودعم المبادرات الحرة، بتشجيع وتحفيز الشباب على إحداث مقاولات صغرى ومتوسطة. فضلا عن مساندة المقاولات الكبرى المواطنة. غايتنا المثلى توفير فرص الشغل المنتج للشباب. وذلك هو المحك الحقيقي لمصداقية أي برنامج سياسي.
وهنا أقول: كفى من مجرد التشخيص النظري للأوضاع، ولمكامن الاختلالات. فلدينا من الدراسات الموضوعية، التي أنجزتها الهيآت والمؤسسات، ما يشفي الغليل. ولم يبق أمامنا إلا اقتراح برامج قابلة للإنجاز، آخذة بعين الاعتبار أسبقيات كل فترة.
ويأتي القضاء في طليعـة القطاعات، ذات الأسبقية في المرحلة المقبلة. فالعدل بقدر ما هو أساس للملك، فهو قوام دولة الحق، وسيادة القانون والمساواة أمامه.
ودعامة للتنمية وتشجيع الاستثمار. لذا يتعين على الجميع التجند لتحقيق إصلاح شمولي للقضاء، لتعزيز استقلاله الذي نحن له ضامنون. هدفنا ترسيخ الثقة في العدالة، وضمان الأمن القضائي، الذي يمر عبر الأهلية المهنية، والنزاهة والاستقامة. وسيلتنا صيانة حرمة القضاء وأخلاقياته، ومواصلة تحديثه وتأهيله، هيكلة وموارد بشرية ومادية، وإطارا قانونياً عصريا.
وبنفس الحزم والعزم، فإننا نولي نفس الاهتمام، للتفعيل الأجود لإصلاح الورش المصيري، للتربية والتكوين، الذي لا مستقبل للأجيال الصاعدة، بدون الجرأة في معالجة معضلاته.
ذلكم أنه برغم الجهود الصادقة، لتفعيل ميثاق التربية والتكوين، الذي يظل إطاراً مرجعياً مؤسسا، فإن النتائج الكمية، لم تحقق التغيير النوعي، والتأثير الملموس، في التربية القويمة، والاستجابة لحاجيات الاقتصاد.
لذلك، يتعين الانكباب، قبل فوات الأوان، على مواصلة تعزيز الحكامة الجيدة في هذا القطاع، وإيجاد حلول موضوعية للقضايا العالقة، وفي طليعتها إشكالية التمويل، وعقلنة تدبير الموارد، ولغات التدريس، وتحديث البرامج والمناهج، والتركيز على محو الأمية. مع إعادة الاعتبار للمدارس العمومية، وتشجيع التعليم الحر، في نطاق تكافؤ الفرص.
وترسيخا للحكامة الترابية، فإننا مصممون على توطيد اللاتمركز والجهوية مع وجوب تلازم الجهوية الناجعة، مع تفعيل نظام اللا تمركز الواسع والملموس، في إطار أقطاب محددة، تفوض لها السلطات المركزية، الصلاحيات والموارد اللازمة، من خلال مقـاربة جهوية مندمجة.
وفي هذا الصدد، نؤكد من جديد، توجهنا الراسخ، لإقامة جهوية متدرجة ومتطورة.
جهوية متضامنة تشمل كل مناطق المملكة، على أساس تقسيم جديد وصلاحيات موسعة. ضمن مسار مغربي-مغربي، بإرادتنا الوطنية الخالصة، مراعاة لخصوصيات كل جهة، بما فيها أقاليمنا الجنوبية. تلكم الأقاليم العزيزة، التي خصصنا لها، دون سواها، مبادرة للحكم الذاتي، كحل توافقي ونهائي للخـلاف بشأنها. والكل في نطاق السيادة والوحدة الوطنية والترابية.
ومن القضايا المصيرية، التي من الضروري استحضارها بقوة، وجوب تعزيز المكاسب المحققة في مجال التنمية القروية، باقتراح استراتيجية للتنمية الفلاحية.
استراتيجية طموحة، تعتمد سياسة زراعية جديدة، ومقاربة شمولية وتنموية مستدامة لإشكالية ندرة الماء، وعقلنة استعمالاته. كما تقوم على اعتبار الجفاف ظاهرة شبه هيكلية، يتعين معالجتها بسياسات عمومية ناجعة. ولكي نجعل التنمية المستدامة لبلدنا تسير بخطى متوازنة بين الحواضر والبوادي، فإنه ينبغي، النهوض بالتنمية الحضرية، ضمن سياسات متناسقة للمدينة، من شأنها جعل حواضرنا مجالا رحبا للعيش الكريم، وتجسيد القيم المغربية الأصيلة، في حسن الجوار والتضامن، والتمازج الاجتماعي.
ومن القضايا الأساسية، مشكـل الطاقـة، الذي يجب التصدي له عبر رؤية مستقبلية ضماناً للأمن الطاقي لبلدنا، وتنويع الموارد الطاقية الوطنية بأخرى بديلة، وترشيد استعمالها.
شعبي العزيز، مثلما ينبني مذهبنا في الحكم على تلازم الديمقراطية والتنميـة، فإنه يقـوم على تكامل سياستنا الداخلية والخارجية. فبفضل تطورنا المؤسسي والتنموي، المشهود بهما عالميا، تعززت مكانة المغرب وإشعاعه الخارجي. وفي هذا الصدد، نعرب عن ارتياحنا وإشادتنا بالخطوات الإيجابية، التي حققتها دبلوماسيتنا بقيادتنا. وذلك بنهج أسلوب حديث فاعل ومتفاعل، وفي ظرفية جهوية ودولية صعبة، محملة بشتى المخاطر والتحولات والمناورات. ويعود الفضل في ذلك، لتعبئة كل القوى الحية للأمة، وتضافر جهود الدبلوماسية الرسمية والموازية. ضمن خطة مقدامة، قائمة على التعريف بعدالة قضيتنا الوطنية، وبالمصالح العليا لبلادنا، وانخراطنا القوي في القضايا الدولية الكبرى.
ولتعزيز هذا التقدم، فإنه ينبغي للحكومة توفير كل الإمكانات المادية، والكفاءات البشرية لدبلوماسيتنا، دعما لحضورها، في مختلف أرجاء العالم، والمنتديات والمؤسسات الدولية. ولتكون في مسـتوى التحديات الجهوية والدولية.
وبفضل سياسته الخارجية الرصينة، فقد أصبح المغرب شريكا فاعلا في الأجندة الدولية ، مساهما في مقوماتها الأساسية. بما في ذلك الحفاظ على السلم والأمن ومحاربة الإرهـاب. وتعزيز التعايش والتفاعل بين الحضارات والديانات، والالتزام بحقوق الإنسان والنهوض بأوضاع المرأة. وكذا تحقيق التنمية المستدامة والمحافظة على البيئة، في إطار الحكامة الجيدة.
ولتجسيد الالتزام بهذه المقومات، فإن للمغرب أسبقيات جيو-سياسية محددة. فبروح التضامن، ما فتئنا نعمل على مساندة ودعم شعوب قارتنا الإفريقية الشقيقة، وخاصة في بلدان الساحل وجنوب الصحراء، والإسهام في تحقيق أمنها واستقرارها وتنميتها البشرية، والحفاظ على سيادتها ووحدتها الوطنية والترابية، والتصدي للمعضلات التي تعانيهـا. فضلا عن دعم التعاون بين بلدان الجنوب، والانخراط في المشروع الطموح للاتحاد المتوسطي.
وبنفس الإرادة الصادقـة، نعمل على توطيد وشائج الأخـوة المتينة، والتعاون المثمر، والتضامن الفعال، التي تجمعنا بالدول العربية الشقيقة. ولا سيما في المجال الاقتصادي، باعتباره أساس العمل العربي المشترك. كما نؤكد دعمنا للقضايا العـادلة لأمتنا. وفي طليعتها حق الشعب الفلسطيني الشقيق، في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف. دولة مبنية على سيادة القانون وحكم المؤسسات، بالقيادة الشرعية لأخينا فخامة الرئيس محمود عباس، الذي ندعم جهوده الصادقة من أجل تحقيق المصالحة، وصون وحدة الشعب الفلسطيني، في التزام بالشرعية الوطنية والدولية، ومبادرة السلام العربية والأوفـاق المبرمة بين الأطراف المعنية. كما نساند كل المبادرات الهادفة لاستتباب الأمن والاستقرار، بكل من العراق ولبنان والسودان والصومال، في نطاق احترام سيادتها وحوزتها. وعلى هذا الأساس، يشكل بناء الاتحاد المغاربي، توجهاً راسخاً في سياستنا الخارجية، ونقطة تقاطع لأولوياتها.
شعبي العزيز، إذا كان من ميزة، يمكن أن ينعت بها المغرب في المرحلة الراهنة، فهي وصف مجلس الأمن الدولي، ومن خلاله المجتمع العالمي قاطبة، لمبادرتنا للتفاوض بشأن الحكم الذاتي، بالجديـة والمصداقية. وإننا لنعتبر أن هذا الاعتراف الدولي، ينطبق على كل الإصلاحات العميقة، التي أنجزناها جميعا، والتحولات التي نقودها بمعيتك، بكل حزم وعزم.
بيد أن هذه الجدية والمصداقية، بقدر ما هي تشريف لنا ، فإنها مسؤولية وتكليف، ومدعاة لمضاعفة الجهود، والتعبئة الشاملة من أجل الحفاظ على هذا الرصيد الثمين.
ذلكم الرصيد الذي بنيناه بالثقة في قدراتنا الذاتية، وتقدير العالم لصواب اختياراتنا، وصدق التزامنا. وسأظل - كما عهدتني- شعبي الأبي، الملك- المواطن. وفي طليعة المناضلين، ميدانيا، في كل أرجاء الوطن وخارجه، حريصا على ترسيخ الوحدة والديمقراطية، والتنمية والتقدم، والتضامن والتفاعل القوي، مع العالم الخارجي وتحولاته، في حفاظ على الهوية المغربية الأصيلة. غايتنا المثلى تحقيق المواطنة الكريمة، لكل مغربي ومغربية، داخل الوطن أو في ديار المهجر. سبيلنا في ذلك، إيمان عميق، وعزم وثيق. ونضال وصمود لا هوادة فيهما. وإقدام مسؤول لا يعرف التهور، وإرادة لا يشوبها الفتور. وأمل وازن لا يخالطه الغرور، سلاحنا القوي هو الالتحام الدائم بين العرش والشعب، الذي مكننا على الدوام من تخطي كل مصاعب الطريق.
مستلهمين باستمرار روح التضحية والتفاني في خدمة الوطن، التي جسدها محرر الأمة، جدنا المقدس، جلالة الملك محمد الخامس، وباني الدولة الحديثة، والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني، نور الله ضريحهما. مستحضرين بكامل التقدير تضحيات رفاقهم في الوطنية الحقة، ومنوهين بالمنخرطين بقيادتنا لاستكمال بناء مغرب المواطنة الملتزمة، بتوفيق من الله وعونه. "ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا". صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".