" الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
أود أن أعرب لكم في البداية عن سعادة المملكة المغربية لاحتضان أشغال الدورة الرابعة للمنتدى الدولي حول إعادة تحديد دور الدولة الذي تستضيفه مدينة مراكش بعد واشنطن سنة 1999 وبرازيليا سنة 2000 ونابولي سنة 2001 والذي هو مخصص للتفكير في قضايا تكتسي أهمية استراتيجية بالنسبة لمستقبل الانسانية.
وإننا إذ نرحب بحضراتكم في بلدنا الذي كان دائما وسيبقى أرض تسامح وانفتاح لنود أن نعبر عن إيماننا القوي بالأفكار والأهداف التي يسعى إلى بلورتها منظمو هذه التظاهرة منذ سنة 1999. ولعلنا في غير حاجة للتذكير بالتحديات الكبرى التي تواجه الدول والشعوب للوقوف على التحولات الكبرى التي غيرت معالم عالمنا قبيل الألفية الثالثة.
وهو واقع يحث الحكومات على التفكير في أساليب جديدة للحكم سواء على المستوى الداخلي أو على الصعيد الدولي.
إن العالم اليوم، يواجه تفاوتات واختلالات خطيرة على الرغم من التطور الكبير المسجل في ميادين المعرفة والتكنولوجيا والاقتصاد والاتصال وأخطرها تفشي ظاهرة العنف التي تعانيها البشرية جمعاء.
فانتهاء الحرب الباردة لم يوءد إلى إيقاف نيران الأسلحة وإقبار النزوعات القديمة للحرب. فإضافة إلى النزاعات التقليدية وجدت أشكال جديدة من الحروب المفتوحة أو الخفية والحروب الأهلية والإرهاب تتستر وراء الخلافات العرقية أو تصادم الحضارات أو تعود لأسباب دينية أصبحت متجاوزة.
إلى جانب هذه المعاناة يسجل التفاوت الشاسع بين النصف الشمالي والجنوبي من الكرة الأرضية والتطور المتباين بين دول العالم.
فالتباين الاقتصادي بين العالم الغني والعالم الفقير يعرف تفاقما مستمرا بسبب النمو الديمغرافي غير المتوازن الذي تشهده الدول النامية والذي يوءدي إلى توسيع رقعة الفقر والتهميش، ويقوي الشعور بالإقصاء وانعدام التضامن الدولي ويغذي حركة الهجرة عبر كل أنحاء العالم. كما أن الفوارق التي تتفاقم على المستوى التكنولوجي تزيد في تعميق الهوة وتغذية التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية.
إن كوكبنا يعاني كذلك من أضرار أخرى تخل بتماسك الوسط الطبيعي. فعلاوة على بطء وتيرة الوعي الدولي بالمخاطر الجسيمة التي تهدد البيئة فإن العديد من المصالح الذاتية والاعتبارات الدولية مازالت تحول دون اتخاذ الإجراءات التي يستدعيها التدبير العقلاني والمستدام للحفاظ على التوازن الطبيعي الضروري للأجيال الحالية والمقبلة.
وأمام هذه التحديات الكبرى فإن عالم بداية الألفية الثالثة يبرز إشكالات غير مسبوقة ويخضع لتحولات عميقة. فدول القرن الذي ودعناه والرهانات الاستراتيجية والفضاءات الاقتصادية أو الدورة العالمية للتجارة وروءوس الأموال المعتمدة سابقا لم تعد كما كانت عليه في نهاية القرن المنصرم.
ذلكم أن الطابع الكوني قد طغى على الإطار الوطني فحلت السوق العالمية محل المناطق التقليدية للتجارة الجهوية واندثرت الحواجز الجمركية أمام المبادرات الجهوية لروءوس الأموال والسلع. كما أن المقاولات الضخمة والتكتلات عبر الوطنية للمجموعات الكبرى غيرت مظهر الاقتصاد العالمي. فالعولمة تفرض على الدول إيقاعا جديدا وعلى المقاولات مستوى عاليا من التنافسية وعلى الشعوب تحديات جديدة وعلى الفئات الأكثر احتياجا آفاقا محدودة.
وفي ظل هذه التحولات الكبرى تثير وضعية البلدان النامية المزيد من القلق لكونها تواجه رهانات خطيرة أحدثها النظام الجديد سواء على الصعيد الداخلي أو الدولي.
فبلدان العالم الثالث مدعوة لرفع العديد من التحديات غالبا ما تفوق طاقاتها فعلاوة على كونها تواجه مشاكل داخلية عميقة تتمثل في النمو الديمغرافي الهيكلي والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وثقل المديونية وعدم الاستقرار السياسي وتفاقم الفقر فإنها مجبرة على الاستجابة لشروط دولية جديدة أكثر صعوبة في ميدان المبادلات والتنافسية وولوج الأسواق والتكنولوجيا.
إن واقع عالم اليوم ليس مطبوعا فقط بالانشقاقات والتفاوتات واليأس بل يتميز أيضا ولله الحمد بتقدم هائل شهدته العديد من المجالات خصوصا تلكم المتعلقة بالتطور التكنولوجي وتقنيات الاتصال التي مكنت من جعل العالم قرية صغيرة وساعدت على التحكم في الزمان والمكان وكذا التقدم الطبي الذي ساهم في الرفع من معدل الحياة والتخفيف من معاناة المصابين. كما أن واقع اليوم مطبوع بالأمل نتيجة انتشار قيم التكافل الدولي من خلال تقديم المساعدات وتوفير الإمدادات العمومية للتنمية وانتشار حملات التضامن والقضاء على الأوضاع المتردية ومن خلال مبادرات التقارب بين الشعوب والحضارات وشبكات التضامن الدولي.
وهي كلها مبادرات محمودة تقوم بها العديد من الدول والمنظمات غير الحكومية والجمعيات المتخصصة والخيرية الموجودة عبر العالم من أجل محاربة المعاناة والأوبئة والإقصاء والفقر.
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
لسنا في حاجة للتذكير بضرورة إعادة تحديد دور الدولة كما تدعو إلى ذلك محاور هذا المنتدى الموقر ولا بضرورة وضع أشكال جديدة للحكم تمكننا من مسايرة حاجيات العصر.
إن الدورات السابقة لهذا المنتدى المنعقدة بالولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل وإيطاليا، قد مكنت منظميه والمشاركين في أشغاله من الوقوف على حتمية اعتماد أساليب جديدة للحكم، وترسيخ الدولة الديمقراطية باعتبارها وسيلة حكم لا محيد عنها في القرن الواحد والعشرين وكذا تعبئة التقنيات الجديدة لخدمة الديمقراطية والتنمية.
لقد اختار المنتدى العالمي الرابع عن وعي موضوع "مواطنون مقاولات وحكومات.. حوار وشراكة من أجل التنمية والديمقراطية".
إن هذا الموضوع يندرج ولاشك في صلب انشغالاتنا المنصبة أساسا حول البحث عن أشكال جديدة للدولة وعن أساليب حديثة للحكم.
ولسنا نرى ضرورة لاستحضار التحولات التي عرفتها الدولة العصرية والتغييرات التي شهدتها ولازالت تشهدها في ظل التطورات الداخلية والدولية.
فهناك أدبيات عديدة وضحت بجلاء جدوى تقليص تدخل الدولة وتحسين دورها. كما أن هناك إجماعا حول ضرورة تخلي الدولة عن بعض المجالات التقليدية لفائدة المبادرة الخاصة أو لصالح المجتمع المدني حتى تتفرغ لوظائفها السيادية وما تقتضي في المرحلة الراهنة من ضبط وتقويم التقلبات الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى عكس تراجع دور الدولة أبرزت الظرفية فاعلين جددا بحكم القوة الاقتصادية والتكنولوجية والرأسمالية التي أصبحوا يتمتعون بها على الصعيدين الوطني والدولي.
كما أنه لا ضرورة للتأكيد أن الحكم العصري لن يتأتى إلا بالحوار وإشراك المجتمع المدني إذ لا يمكن تصور حكم معاصر في غياب الديمقراطية ولا تطور اقتصادي واجتماعي دون مساهمة الجميع ولا تنمية دون حرية واحترام لحقوق الانسان.
ان الأساليب الجديدة للحكم ومدى فعاليتها في ميادين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية مرتبطة في الأساس بالدور المنوط بكل من الدولة والمقاولة والمجتمع المدني وبكيفية استيعابها لمسوءولياتها وطريقة أدائها لمهامها ومدى تكاملها وشراكتها في تنفيذ أدوارها.
فمنظمو المنتدى العالمي الرابع بإثارتهم لهذه الإشكالية يدركون تماما أن الاستغناء عن هذه الشراكة الثلاثية يعد مجازفة بمستقبل الشعوب مع الوعي بأهمية الخزان الهائل للفرص والمصالح الذي قد يتيحها أسلوب الحكم الذي يعتمد الحوار والشراكة بين الدولة والمقاولة والمواطنين، باعتبارهم روافد للديمقراطية والتنمية.
إن الحوار بين "الدولة والمقاولات والمواطنين" سيعطي لا شك على الصعيد الدولي نفسا جديدا وسيقترح حلولا بديلة من شأنها توفير السبل والوسائل الكفيلة بتحقيق عالم أكثر عدالة وتضامنا ومجتمعا دوليا أكثر تماسكا وبيئة أكثر حماية.
فكيف يمكن إيقاف مسلسل العنف وإخماد بوءر التوتر ومصالحة الحضارات واحترام الاختلافات العرقية والدينية واللغوية والتقليص من الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والقضاء على الفقر والأمية ومحاربة الإقصاء والإرهاب والجريمة وتحقيق عولمة ذات طابع انساني وحماية البيئة وضمان التنمية المستدامة.
ان هناك اقتناعا مشتركا بأنه لا ينبغي أن تبقى بعض هذه التساوءلات الكبرى المصيرية حكرا على الدول جهويا أو عالميا إذ يتعين عدم حصر وظيفة المقاولات في المجال الاقتصادي اعتبارا لتشابك العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعقدية بل إن المجتمع المدني كذلك مدعو أكثر من أي وقت مضى للتعبير عن رأيه والإضطلاع بدوره من أجل نصرة قيم السلم والعدالة والتضامن العالمي
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
إن المغرب الوفي لتقليد تاريخي عريق قائم على التشبث بقيمه الأصيلة والمترسخة والانفتاح الدائم على العالم منخرط بقوة في حركية الأفكار والتيارات التي تسود العالم ومنها يستلهم اختياراته وتوجهاته أخذا وعطاء.
ونظرا لكونه يواجه نفس التحديات والرهانات التي تعرفها دول من نفس مستواه فإنه يطمح إلى اتباع أفضل السبل الكفيلة بتأمين حرية المواطنين وكرامتهم واحترام حقوق الانسان وضمان الممارسة الديمقراطية والمشاركة الفعلية وتحقيق التنمية ونشر السلم والتضامن.
فعلى غرار العديد من الأمم شرعت بلادنا عن وعي وبعزيمة في إعادة انتشار الدولة وتدعيم الديمقراطية وتطوير اللامركزية وتحرير الاقتصاد وتحسين المقاربات التشاركية وتحفيز المبادرات الجمعوية وتشجيع الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
ولا زالت أمامنا أشواط كثيرة يتعين قطعها لاستنفاذ كل الفرص السياسية والديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية التي تتيحها هذه الأساليب الجديدة للحكم.
من هنا فإن منتدى مراكش هذا سيمنحنا بحق فرصة جديدة لتبادل تجاربنا في هذا الميدان مع الدول والمنظمات الحاضرة معنا. كما سيمكننا من البحث عن سبل بديلة وربما ابتكار حلول جديدة.
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
إن المستوى الرفيع للوفود الحاضرة في هذا المنتدى الحافل سيمكن لا شك من إنجاح أشغاله ومعالجة موضوعه من جميع جوانبه بما يعود بالنفع على مستقبل بلداننا وشعوبنا كافة.
ولايفوتنا ونحن نتمنى لملتقاكم ما هو جدير به من توفيق أن نجدد لكم عبارات الترحيب مشفوعة بالتقدير العميق لمنظميه.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".