" الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله محمد وعلى آله وصحبه وسائر الأنبياء والمرسلين،
حضرات السيدات والسادة،
يطيب لنا في مستهل هذه الكلمة أن نتقدم بجزيل الشكر وأخلصه إلى صديقنا الكبير، جلالة الملك ألبير الثاني، ملك بلجيكا على كريم استضافته لهذه التظاهرة الاستثنائية في هذا السياق التاريخي الذي يعطي انطباعا بخفوت الأصوات الداعية إلى التعقل والحكمة والتثبت في العلاقات بين بني هذا الجنس الإنساني الفريد المغترب فوق هذا الكوكب الصغير في هذا الكون الفسيح.
يلتئم هذا اللقاء والبشرية مكلومة بفاجعة إحدى أكثر الكوارث الطبيعية مأساوية التي ابتليت بها في التاريخ. وإذ نسأل الله تعالى أن يتغمد الضحايا بواسع رحمته، معربين عن مواساتنا لذويهم الذين فقدوا أقرباء وممتلكات، والذين هم في أمس الحاجة لمؤازرتنا وتضامننا الفاعل؛ فإننا نعتبر أن هذه الكارثة تذكر البشرية بهشاشتها، وتدعو بني آدم إلى التحلي بمزيد من الإنسانية والحكمة والتأني، مستشعرين أن حياتنا العابرة في هذه الدنيا ينبغي أن تكون مصدر وعي للتحلي بروح الأخوة، وتغليبها علىنوازع التفرقة والانشقاق.
حضرات السيدات والسادة،
إننا كلنا أمل أن يكون هذا الملتقى كابحا لمسار اللاتسامح والتنابذ اللذين باتا كالسمة في عالمنا بيد أن إنسانية القرن الواحد والعشرين قد شبت عن العذر لامتلاكها المقومات والمعطيات التي تؤهلها للتجاوز من حيث العلوم الممكنة إياها من الاستشراف المستبين لمآلات الانغلاق على الذات والكليانية ووهم امتلاك الحقيقة.
وكذا ما استقر في كيان هذه البشرية - بشرية القرن الواحد والعشرين - من نظم وأنساق منهجية ومعرفية تجعلها متأبية على القولبة الديماغوجية أو الإيديولوجية المؤسسة على نماذج لا أدلة لها في صحيح منقول ولا صريح معقول.
ولا نريد أن يفوتنا شكر القائمين على مؤسسة - رجال الكلمة - على هذه المبادرة المسؤولة والشجاعة إلى تنظيم هذا الملتقى النوعي الذي يروم تدشين سيرورة ينطلق فيها الحوار الجاد المسؤول والمؤسس بين الإسلام واليهودية نحو غد للبشرية أفضل.
إن خطاب السماء للإنسان عبر القرون المتتالية عامة وفي المرحلة الإبراهيمية خاصة كان خطاب رحمة وتسامح وإخاء، خطابا يروم تنمية مدارك البشر وإرهاف قدراتهم وشحذها لتأهيلهم للانتباه إلى المساقات الكونية الشاملة التي يوجدون فيها وإلى نسبيتهم ومؤقتيتهم أفرادا وجماعات، وكذا لأن يدركوا نفاسة جنسهم والإمكانات الجسيمة المتاحة أمامهم لتحصيل السعادتين العاجلة والآجلة.
وكما أن حالات السواء كلها تقارفها وتداخلها تهديدات بالاضطراب أو الانتقاض، فإن حالة السواء في مجال التدين قد قارفتها وتقارفها تهديدات بالاضطراب تنال منها أحايينا، ولا تنال منها بل تزيدها قوة أحايين أخرى .. ومن أشكال الاضطراب التي رصدت عبر تاريخ البشرية بعامة تصدي غير الأكفاء للصدارة والريادة وارتهانهم لاسم الله ولكلمات الله زورا وبهتانا مبينا، واستغلال عواطف التدين عند الشعوب ليدلفوا بها نحو المهاوي التاريخية، وقد كان عمل الراشدين دوما، هو استرجاع اسم الله
وكلمات الله من حوزة الذين لايصلحون لاستعادة حالة السواء في هذا المجال المحوري الحساس. وقد شكل عمل الراشدين هذا أكبر التحديات التي واجهتها البشرية، وقد كان - دوما - نجاحهم ونجاح صوت الحكمة والنباهة نجاحا للبشرية جمعاء.
حضرات السيدات والسادة،
إن من أوجب الواجبات اليوم السعي الجاد والحثيث لاستنقاذ اسم الله وكلمات الله من الارتهان في حوزة الذين لا يحسنون " الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار"، الذين صيروا أنفسهم في خدمة اللاتسامح والعنف، وأحيانا كثيرة في خدمة الإبادة والموت ... عن طريق الاستعمال الأحادي المزاجي غير الحقيقي للهدي الإلهي.
من أوجب الواجبات اليوم أن نسترجع اسم الله ونسترجع كلمات الله ونعيد تحليتهما بحمولتهما الحقيقية الأصيلة التي تنطوي على قيم الاستماع المتبادل والحوار والتزكي والنماء التي وجهت البشرية نحو الأنوار في فتراتها الوضيئة التي تحفظها ذاكرتها الجماعية.
ولاشك أن هذا الاسترجاع يتأسس على مسألة يتعذر تخطيها وهي حماية القضايا الكبرى التي تهمنا جميعا، والالتزام بها.
فلا تفاوض حول حقوق الشعوب والأمم في الحرية والكرامة والسيادة ولا تعدد في معايير مقاييس ضمان هذه الحقوق بحسب دين أو عرق.
إنها الحقوق نفسها بالنسبة للجميع، ونضال المحرومين منها، عنها مشروع.
وتضامننا ووقوفنا إلى جانبهم وجب أن يكونا بتراص وثيق وبدون شروخ.
وإن تثبيت روحانياتنا وتديناتنا في أرضية الحوار والتبادل واللقاء لا يتناقض مع هذا التضامن وذاكم الالتزام. بل على العكس تماما، فإن كلمات الله المعاد تأهيل استعمالها وجب طبيعيا أن تحض على خدمة هذه القضايا.
ولاشك أن التكذيب بالدين في اليهودية كما في الإسلام هو دعّ المحتاج، وعدم الحض على طعام المسكين والامتناع عن بذل المعونة للمحتاجين إليها " أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون" .
وعليه، فإن علينا جميعا - بريادتكم - معاشر الأئمة والحاخامات المحترمين أن نكون بالأسوة، أبطال المنافحة عن حق الفلسطينيين أن يعيشوا في سلام بكرامة وفي عدالة جنبا إلى جنب مع الإسرائيليين المتصالحين مع قيمهم اليهودية وأسس عقيدتنا المشتركة.
إن علينا جميعا كسر هذه المرآة الوهمية العاكسة التي عكست لشعوبنا وأممنا - لآماد طالت - صورة شوهاء لمفهوم الحرب المقدسة سوق لها المسيئون الفاتنون المفتونون، بيد أنها ليست في بعدها النهائي سوى جهاد الأنفس وثنيها عن كل أنواع غيها الظاهر والباطن.
حضرات السيدات والسادة،
إن بلدكم المغرب حدد ذاته وبناها وطورها انطلاقا من هذه الرؤية التي ألهمت الروحانية الغالبة في المغرب والتي انداحت منه صوب سائر مناطق العالم عبر التاريخ.
وفي إطار هذه الرؤية وجب أن تتموقع بيداغوجيا حضارية تريد لنفسها أن تكون نسقية بنيوية - وليس مناسباتية - بيداغوجيا حضارية تتسم بالعمق والتؤدة الكافيين.
وبالفعالية اللازمة تكونون أنتم أيها المعشر الكريم حائزي شرف إطلاقها وريادتها اليوم.
وسوف يرافقكم المغرب ملتزما منخرطا وفاعلا إلى جانبكم، لأنكم اخترتم أن تحرروا فعالية كلمات الله في مجال خدمة العدل والكرامة والسلام .. لأنكم رفضتم قدرية المواجهة ولم تستسلموا لدوار الانشقاق الديني، ونبذتم منطق الإقصاء العرقي وقررتم أن يكون ملتقاكم هذا بداية مسيرة طويلة ممنهجة نحو استعادة الصواب، ونحو إعادة بناء الأمل ونحو استئناف مزاولة مسؤولية رجال ونساء الإيمان والتدين في البناء وريادة بني آدم نحو السعادة في العاجل والآجل.
حضرات السيدات والسادة،
إنكم مدعوون اليوم إلى رفع تحد مزدوج يروم من جهة فك أسر كلمات الله وإطلاق فاعليتها البناءة المشيدة، وإذابة الجليد المتراكم عبر الدهور بين المؤمنين بها، انطلاقا من سموق السقف المعرفي والإدراكي الذي تتوافر عليه البشرية اليوم. ومن جهة ثانية يروم التوطين لالتزام أخلاقي وقيمي مسترجع.
إن المغرب برعايته الملكية لهذا الملتقى، وبوفده الهام الذي يحضره ليشفع بهذا الخطاب كل هذه الدلالات السيميائية العملية، ليسجل دعمه لهذا الملتقى المبارك ويأمل أنه سوف يكون الفضاء المؤسس والرائد في مجال تحقيق المقاصد المنوطة به.
أتمنى لمبادرتكم الشجاعة والمسؤولة كل التوفيق وشكرا لكم على حسن إنصاتكم".