" الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
حضرات السيدات والسادة أعضاء البرلمان المحترمين،
نستحضر، بكل خشوع وإجلال، اقتران افتتاحنا لهذه السنة التشريعية، بتخليد الشعب المغربي، في العاشر من رمضان المبارك، لذكرى رحيل محرر الأمة، جدنا المنعم، جلالة الملك محمد الخامس. فقد كان، أكرم الله مثواه، رائدا في إرساء دعائم الديمقراطية، من خلال إنجازات تاريخية، وفي طليعتها إصداره، سنة 1958، للعهد الملكي المتقدم للحريات العامة، المكرس للتعددية الحزبية، التي دسترها بعده، بكل حكمة وبعد نظر، والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، قدس الله روحه.
وستكون مصادقتكم، في مستهل هذه الدورة، على قانون جديد للأحزاب، الذي دعونا إلى وضعه، خير تعبير عن الوفاء لذكراهما العطرة، وأقوى تحفيز على جعل هذا التشريع المؤسس، نقلة نوعية إلى ما نتوخاه لأحزابنا السياسية من دور أساسي في بناء المجتمع الديمقراطي التنموي.
كما يتزامن انعقاد هذه الدورة مع ظرفية، محملة بمشاريع وإصلاحات هيكلية واعدة، واستحقاقات ملزمة، في شتى المجالات، وأوراش تنموية مفتوحة، في كل الجهات، لا بد لتحقيق برامجها الطموحة، ورفع ما يكتنفها من إكراهات، ورهانات وتحديات، من التشبع بروح التعبئة والعمل، والثقة والأمل.
وإذا كان شروعنا في إنجاز الشطر الأول من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، قد مكننا من المعاينة الشخصية لمدى الخصاص، والتفاوتات والحاجيات، فقد جعلنا نقف ميدانيا، على مدى الانخراط القوي فيها من كل الفئات، بوازع المواطنة الإيجابية. مواطنة قائمة على تحمل المسؤولية، والمشاركة في إبداع الحلول الأكثر واقعية، للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية، التي لا تنتظر المواعيد الانتخابية، ولا أن تبقى مرهونة بها.
وفي هذا الصدد، نؤكد ضرورة توعية كل مغربي بأن مصيره يتوقف على مبادراته، وإقدامه على العمل الجماعي، الذي يمر عبر تأطيره عن طريق الهيآت المؤهلة، وفي طليعتها الأحزاب، التي نعتبرها مدارس للوطنية والمواطنة الحقة. بل الأداة المثلى لتربية كل المغاربة على حسن المشاركة، في تدبير الشأن العام، وممارسة العمل السياسي، بمعناه النبيل.
وذلكم هو النهج القويم، الذي أعمل جاهداً على توطيد أركانه، مؤكداً غير ما مرة، ومن أعلى هذا المنبر، على إعادة الاعتبار للهيآت السياسية. اقتناعا منا بأنه لا ديمقراطية فعلية وملموسة، إلا بأحزاب قوية ومسؤولة.
ومن ثم كان حرصنا على تقويتها، من خلال توفير إطار قانوني متقدم، يكفل لها الديمقراطية في التأسيس والتنظيم، والتسيير. فضلا عن توفير الدعم المادي القار والشفاف، الذي يأخذ بعين الاعتبار قدرتها على التأطير والتمثيل. وسيظل هدفنا الأسمى، تمكين الأحزاب الوطنية من المناعة اللازمة، وتحصين مشهدنا الحزبي من البلقنة المعيقة للنهوض بدورها الدستوري، على الوجه المطلوب.
بيد أن هذا النص المؤسس سيبقى، مهما تكن مصداقيته، مجرد إطار تشريعي، ما لم يبادر الفاعلون السياسيون إلى إضفاء الدينامية الضرورية عليه. وذلك بحسن تفعيل مقتضياته، واستلهام روحه. بما يجعله انبثاقا لثقافة سياسية جديدة، ترسخ الثقة في المنظمات الحزبية والمجالس المنتخبة.
ولنا اليقين في أن أحزابنا السياسية، بغيرتها الوطنية، ستسارع إلى تجسيد تجاوبها مع التشريع الجديد، ليس فقط بتقليص مدة الملاءمة الشكلية، بتعديل أنظمتها الأساسية وفقه، وإنما أيضا بجعل هذه الملاءمة أكثر عمقا؛ بحيث تجسد روحه، سواء فيما يخص الانتقال بالعمل الحزبي من الموسمية الانتخابية، إلى الاستمرارية التأطيرية، أو في استيعاب النخب الجديدة، ولاسيما منها الشباب والنساء. كما ندعوها لتكريس قصارى نشاطها الميداني، لترسيخ روح المواطنة الفاعلة، وتربية الأجيال الصاعدة على المشاركة الديمقراطية، وتحصينها من مساوئ الفراغ السياسي، وعواقبه الوخيمة.
وبرغم أهميته، فإننا نعتبر قانون الأحزاب ليس نهاية المطاف. وإنما هو خطوة أولى أساسية، في المسار الحيوي البناء، ليس فقط لإعادة ترتيب بيتها، لكسب استحقاقاتها الانتخابية المشروعة. ولكن أيضا لتحقيق ما نتوخاه جميعا، من انبثاق مشهد سياسي معقلن، قائم على تحالفات قوية، وأقطاب متمايزة، لا بكثرة ألوانها، ولكن بتنافسيتها حول مشاريع تنموية مضبوطة.
وسيظل استكمال وتعزيز هذا التأهيل الحزبي، في بعده التشريعي، رهينا بنظام انتخابي ناجع وملائم. لذلك أصدرنا تعليماتنا للحكومة، قصد العمل، في إطار من التشاور الواسع، والتوافق البناء، على أن تكون مدونة الانتخابات، معتمدة ومعروفة، قبل سنة من موعد الاقتراع. بما يتيح وضوح الرؤية، وتخليق المنافسة المتكافئة، الكفيلة بخوض انتخابات حرة وتعددية. وذلكم هو السبيل القويم، لبلوغ ما نتطلع إليه من إفراز أغلبية حكومية منسجمة، ومعارضة نيابية بناءة.
إن هذا التحديث التشريعي لقانوني الأحزاب والانتخابات، لن يعطي ثماره كاملة، ما لم يقترن بتأهيل سياسي أكثر شمولية، وأضمن لترسيخ ثقة المواطن، وتحفيزه على المشاركة في مؤسساته النيابية والحزبية والجمعوية.
وفي هذا الإطار، فإن المؤسسة البرلمانية مطالبة بالنهوض بدور مهم في هذا المسار الجاد. وذلك بإعطاء شحنة قوية، لتنشيط العمل النيابي، على جميع مستوياته : تشريعا إصلاحيا، ومراقبة مسؤولة، وتأطيرا ميدانيا، وديبلوماسية موازية مقدامة، تستهدف جعل التطور الديمقراطي لبلادنا، في خدمة الدفاع عن مغربية صحرائنا.
وإننا لندعو كل الفاعلين إلى تعبئة جهودهم وتضافرها، في مواجهة الحملات المغرضة، المدبرة من قبل خصوم وحدتنا الترابية، وذلك بالتصدي القوي لها في كل المحافل، لفضح الأساليب والمناورات الدنيئة.
حضرات النائبات والنواب المحترمين،
تجسيدا للمكانة التي نوليها لمؤسستكم الموقرة، وحرصا منا على توسيع مجال الممارسة الديمقراطية بكيفية ملموسة، فقد قررنا أن يتولى البرلمان، على غرار مدونة الأسرة، البت في إصلاح التشريع المتعلق بالجنسية، بالمنظور الشمولي للمواطنة المسؤولة، والمتشبعة بالثوابت الوطنية المقدسة.
وإننا نتوخى من التأهيل السياسي الشامل، تعبيد الطريق أمام الإصلاح المؤسسي العميق، الهادف إلى توطيد الدولة القوية، بالملكية الدستورية المواطنة، وبالمؤسسات الديمقراطية المسؤولة والناجعة، وبالتنمية البشرية المستدامة، وتعزيز الحكامة الجيدة.
غير أن الإصلاح المؤسسي الذي نحرص عليه، لا يجب أن يحجب عنا أنه سيظل، بدون تنمية بشرية، صوريا. بل ونوعا من الترف السياسي، بالنسبة للجماهير الشعبية ، التي تعتبر العمل من أجل توفير الحد الأدنى من العيش الكريم، والرزق الحلال، في ظل العفاف والكفاف، شغلها الشاغل. ولأجل ذلك، فإنه لا مناص لنا من الإسراع بالنمو الاقتصادي، باعتباره انخراطا جادا، وعملا دؤوبا على إنتاج الثروات، بالمبادرة الحرة والاجتهاد. بدل ترديده كشعار ينادي به الجميع، ويحوله لنوع من المطالب النقابية، التي يمكن تلبيتها بمجرد إصدار قرار.
فبلادنا وإن كانت تسجل نموا اقتصاديا ملحوظا، إلا أنها لم تعبئ بعد كل طاقاتها، لتتقدم فيه بالوتيرة القصوى، والسير الحثيث على قدميها معا، في توازن وتكامل بين التنمية والديمقراطية، وبين ترشيد القطاع العام، ونهوض القطاع الخاص بدور قاطرة النمو. إن المشكل ليس في أننا أمام معضلة صعبة. وإنما في كوننا نضع كل عبئها على كاهل الدولة بمفردها، دون إشراك الفاعلين الآخرين.
ولوضع حد لهذا المشي المختل على قدم واحدة، فإنه يتعين على الجميع، الإقدام على إيجاد حلول ناجعة لها، في الوقت الملائم، وبقرارات جريئة وفعالة، والتخطيط العقلاني والمحكم، الذي هو ثمرة التربية الصالحة، والتنشئة السياسية والاجتماعية التشاركية. ومن ثمة كان تركيزنا على بناء ثقافة المواطنة الإيجابية. بكل ما تعنيه من تحول إلى عقلية المواطن الفاعل- المبادر، والمشارك- المنتج، بدل السلبية والتواكلية والانتظارية. وهو ما يتطلب النفس الطويل، الذي يرتبط فيه تقدم المواطن بقابليته للتقدم. ذلك أنه لا يمكن تطوير المغرب، إلا بسواعد أبنائه وعقولهم، والسعي الحثيث في سبيل تغيير ما بأنفسهم. كما أنه لا يمكن إصلاح البلاد بدون صلاح العباد.
وإننا لنسأل الله سبحانه، في هذه الأجواء الروحانية، لشهر رمضان المبارك، الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، أن يجعلنا من " الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه. أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب". صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".